سورة الشورى - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الشورى)


        


{أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)}
قوله تعالى: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا} أي وإن يشأ يجعل الرياح عواصف فيوبق السفن، أي يغرقهن بذنوب أهلها.
وقيل: يوبق أهل السفن. {ويعف عن كثير} من أهلها فلا يغرقهم معها، حكاه الماوردي.
وقيل: {وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} أي ويتجاوز عن كثير من الذنوب فينجيهم الله من الهلاك. قال القشري: والقراءة الفاشية {ويعف} بالجزم، وفيها إشكال، لان المعنى: إن يشأ يسكن الريح فتبقى تلك السفن رواكد ويهلكها بذنوب أهلها، فلا يحسن عطف {يعف} على هذا، لأنه يصير المعنى: إن يشأ يعف، وليس المعنى ذلك بل المعنى الاخبار عن العفو من غير شرط المشيئة، فهو إذا عطف على المجزوم من حيث اللفظ لا من حيث المعنى. وقد قرأ قوم {وَيَعْفُ} بالرفع، وهي جيدة في المعنى. {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} يعني الكفار، أي إذا توسطوا البحر وغشيتهم الرياح من كل مكان أو بقيت السفن رواكد علموا أنه لا ملجأ لهم سوى الله، ولا دافع لهم إن أراد الله إهلاكهم فيخلصون له العبادة. وقد مضى هذا المعنى في غير موضع، ومضى القول في ركوب البحر في البقرة وغيرها بما يغني عن إعادته. وقرأ نافع وابن عامر: {وَيَعْلَمَ} بالرفع، الباقون بالنصب. فالرفع على الاستئناف بعد الشرط والجزاء، كقوله في سورة التوبة: {وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 14] ثم قال: {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ} [التوبة: 15] رفعا. ونظيره في الكلام: إن تأتني آتك وينطلق عبد الله. أو على أنه خبر ابتداء محذوف. والنصب على الصرف، كقوله تعالى: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142] صرف من حال الجزم إلى النصب استخفافا كراهية لتوالي الجزم، كقول النابغة:
فإن يهلك أبو قابوس يهلك *** ربيع الناس والشهر الحرام
ويمسك بعده بذناب عيش *** أجب الظهر ليس له سنام
وهذا معنى قول الفراء، قال: ولو جزم {وَيَعْلَمَ} جاز.
وقال الزجاج: نصب على إضمار {أن} لان قبلها جزما، تقول: ما تصنع أصنع مثله وأكرمك. وإن شئت قلت: وأكرمك بالجزم.
وفي بعض المصاحف {وليعلم}. وهذا يدل على أن النصب بمعنى: وليعلم أو لان يعلم.
وقال أبو علي والمبرد: النصب بإضمار {أن} على أن يجعل الأول في تقدير المصدر، أي ويكون منه عفو وأن يعلم، فلما حمله. على الاسم أضمر أن، كما تقول: إن تأتني وتعطيني أكرمك، فتنصب تعطيني، أي إن يكن منك إتيان وأن تعطيني. ومعنى {مِنْ مَحِيصٍ} أي من فرار ومهرب، قاله قطرب. السدي: من ملجأ وهو مأخوذ من قولهم: حاص به البعير حيصة إذا رمى به. ومنه قولهم: فلان يحيص عن الحق أي يميل عنه.


{فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)}
قوله تعالى: {فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ} يريد من الغنى والسعة في الدنيا. {فَمَتاعُ} أي فإنما هو متاع في أيام قليلة تنقضي وتذهب، فلا ينبغي أن يتفاخر به. والخطاب للمشركين. {وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى} يريد من الثواب على الطاعة {لِلَّذِينَ آمَنُوا} صدقوا ووحدوا {وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} نزلت في أبي بكر الصديق حين أنفق جميع ماله في طاعة الله فلامه الناس. وجاء في الحديث أنه: أنفق ثمانين ألفا.


{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37)}
فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ} الذين في موضع جر معطوف على قوله: {خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا} أي وهو للذين يجتنبون {كَبائِرَ الْإِثْمِ} وقد مضى القول في الكبائر في {النساء}. وقرأ حمزة والكسائي {كَبائِرَ الْإِثْمِ} والواحد قد يراد به الجمع عند الإضافة، كقوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها} [النحل: 18]، وكما جاء في الحديث: «منعت العراق درهمها وقفيزها». الباقون بالجمع هنا وفي {النجم}. {وَالْفَواحِشَ} قال السدي: يعني الزنى. وقاله ابن عباس، وقال: كبير الإثم الشرك.
وقال قوم: كبائر الإثم ما تقع على الصغائر مغفورة عند اجتنابها. والفواحش داخلة في الكبائر، ولكنها تكون أفحش وأشنع كالقتل بالنسبة إلى الجرح، والزنى بالنسبة إلى المراودة.
وقيل: الفواحش والكبائر بمعنى واحد، فكرر لتعدد اللفظ، أي يجتنبون المعاصي لأنها كبائر وفواحش.
وقال مقاتل: الفواحش موجبات الحدود.
الثانية: قوله تعالى: {وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} أي يتجاوزون ويحملون عمن ظلمهم. قيل: نزلت في عمر حين شتم بمكة.
وقيل: في أبي بكر حين لامه الناس على انفاق مال كله وحين شتم فحلم. وعن علي رضي الله عنه قال: اجتمع لابي بكر مال مرة، فتصدق به كله في سبيل الخير، فلامه المسلمون وخطأه الكافرون فنزلت: {فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون} إلى قوله: {وإذا ما غضبوا هم يغفرون}.
وقال ابن عباس: شتم رجل من المشركين أبا بكر فلم يرد عليه شيئا، فنزلت الآية. وهذه من محاسن الأخلاق، يشفقون على ظالمهم ويصفحون لمن جهل عليهم، يطلبون بذلك ثواب الله تعالى وعفوه، لقوله تعالى في آل عمران: {وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران: 134]. وهو أن يتناولك الرجل فتكظم غيظك عنه. وأنشد بعضهم:
إني عفوت لظالمي ظلمي *** ووهبت ذاك له على علمي
ما زال يظلمني وأرحمه *** حتى بكيت له من الظلم

6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13